الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} [سبأ: 3] إلخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56]: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل: إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعًا فلا يعزب عن علمه شيء قطعًا.ونقل عن بعض المحققين في دفع الأشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وأن خالف ما هم عليه في الجملة.وقال الكواشي: معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه إلا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه.واعترض بأن تفسيره بيبين وينفصل غير معروف، وقيل: المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبًا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة.ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل: إن: {إِلا} عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء في قوله تعالى: {لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النحل: 01 11] والأخفش في قوله سبحانه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وقوم في قوله جل شأنه: {الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه: {وَلا أَكْبَرَ} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {إِلاَّ في كتاب} أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون: {إِلا} بمعنى الواو، والانصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو، وقيل: آن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب؛ ونظيره: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَئ} [الأنعام: 38] ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب.ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلًا بما قبل قوله تعالى: {وَلاَ يَعْزُبُ} ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه إلى ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن.ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في: {وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ} بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني: {إلا في كتاب مبين}، {إلا كنا عليكم شهودًا} وليس ذلك نظير.
كما لا يخفى.وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدرًا وأدقها سرًا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] ونظائره الكثيرة نثرًا ونظمًا، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم. اهـ.
وذلك استعارة بتشبيه الواحد بالجماعة في القوة لأن الجماعة لا تخلو من مزايا كثيرة موزعة في أفرادها.والشاهد: الحاضر، وأطلق على العالم بطريقة المجاز المرسل ولذلك عدي بحرف (على).و: {إذْ} ظرف، أي حين تفيضون.والإفاضة في العمل: الاندفاع فيه، أي الشروع في العمل بقوة واهتمام، وهذه المادة مؤذنة بأن المراد أعمالهم في مرضاة الله ومصابرتهم على أذى المشركين.وخصت هذه الحالة وهذا الزمان بالذكر بعد تعميم الأعمال اهتمامًا بهذا النوع فهو كذكر الخاص بعد العام، كأنه قيل: ولا تعملون من عملٍ مَّا وعملٍ عظيمٍ تفيضون فيه إلا كنا عليكم شهودًا حين تعملونه وحين تفيضون فيه.وجملة: {وما يعزب عن ربك} إلخ عطف على جملة: {وما تكون في شأن}، وهي بمنزلة التذييل لما فيها من زيادة التعميم في تعلق علم الله تعالى بجميع الموجودات بعد الكلام على تعلقه بعمل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.والعزوب: البعد، وهو مجاز هنا للخفاء وفواتتِ العلم، لأن الخفاء لازم للشيء البعيد، ولذلك علق باسم الذات دون صفة العلم فقال: {عن ربك}.وقرأ الجمهور: {يعزب} بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي وهما وجهان في مضارع (عزب).و(من) في قوله: {من مثقال ذرة} مزيدة لتأكيد عموم النفي الذي في: {ما يعزب}.والمِثقال: اسم آلة لما يعرف به مقدار ثِقَل الشيء فهو وزن مِفعال من ثَقُل، وهو اسم لصنج مقدر بقدر معين يوزن به الثقل.والذرة: النملة الصغيرة، ويطلق على الهباءة التي ترى في ضوء الشمس كغبارٍ دقيق جدًا، والظاهر أن المراد في الآية الأولُ.وذُكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء فإن مَا هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم.والمراد بالأرض والسماء هنا العالم السفلي والعالم العلوي.والمقصود تعميم الجهات والأبعاد بأخصر عبارة.وتقديم الأرض هنا لأن ما فيها أعلق بالغرض الذي فيه الكلام وهو أعمال الناس فإنهم من أهل الأرض بخلاف ما في سورة [سبأ: 3]: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} فإنه لما كان المقام لذكر علم الغيب والغيب ما غاب عن الناس ومعظمه في السماء لاءم ذلك أن قدمت السماء على الأرض.وعطف: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} على: {ذرة} تصريحًا بما كني عنه بمثقال ذرة من جميع الأجرام.و: {أصغر} بالفتح في قراءة الجمهور ممنوعًا من الصرف لأنه معطوف على: {ذرة} المجرور على أنَّ: {لا} مقحمة لتأكيد النفي.وجوز أن يكون العطف عطف جملة وتكون: {لا} نافية للجنس: {وأصغر} اسمها مبنيًا على الفتح فيكون ابتداء كلام.وقرأ حمزة وخلف ويعقوب: {ولا أصغرُ ولا أكبرُ} برفعهما باعتبار عطف: {أصغر} على محل: {مثقال} لأنه فاعل: {يعزب} في المعنى، وكسرته كسرة جر الحرف الزائد وهو وجه من فصيح الاستعمال، أو باعتبار عطف الجملة على الجملة وتكون: {لا} نافية عاملة عمل ليس و: {أصغر} اسمها.والاستثناء على الوجهين الأوَّلين من قراءتي نصب: {أصغرَ} ورفعه استثناء منقطع بمعنى (لكن)، أي لا يعزب ذلك ولكنه حاضر في كتاب، وجوز أن يكون استثناء متصلًا من عموم أحوال عزوب مثقال الذرة وأصغرَ منها وأكبر.وتأويله أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.والمعنى لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في حال كونه في كتاب مُبين، أي إلا معلومًا مكتوبًا ويعلم السامع أن المكتوب في كتاب مبين لا يمكن أن يعزب، فيكون انتفاء عزوبه حاصلًا بطريق برهاني.والمجرور على هذا كله في محل الحال، وعلى الوجهين الأخيرين من القراءتين يكون الاستثناء متصلًا والمجرور ظرفًا مستقلًا في محل خبر (لا) النافية فهو في محل رفع أو في محل نصب، أي لا يوجد أصغر من الذرة ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59].والكتاب: علم الله، استعير له الكتاب لأنه ثابت لا يخالف الحق بزيادة ولا نقصان.ومبين: اسم فاعل من أبان بمعنى بان، أي واضح بيّن لا احتمال فيه. اهـ.
|